1- خذوا عن أهل الورع والاعتدال:
وإذا كان لكل علم أهله ورجاله، فنصيحتي للشباب المسلم أن يأخذوا العلم الشرعي من ثقات العلماء الذين يجمعون بين سعة العلم والورع والاعتدال.
وأساس العلم الشرعي هو: الكتاب والسنة، ولكن لا غنى لمن يريد فهمهما عن تفسير المفسرين، وشرح الشراح، وفقه الفقهاء، ممن خدموا الكتاب والسنة، وأصّلوا الأصول، وفرعوا الفروع، وخلفوا لنا تراثا عريضاً، لا يعرض عنه إلا جاهل أو مغرور.
فمن ادعى علم الكتاب والسنة، وطعن في علماء الأمة فليس بمأمون على تعاليم الدين، ومن أخذ عن العلماء وكتب المذاهب، مهملاً دلائل القرآن والحديث، فقد أهمل أصل الدين ومصدر التشريع.
وقد يوجد من علماء الدين من يتخصص في فرع من فروع الثقافة الإسلامية، لا يتصل اتصالاً مباشراً بالكتاب والسنة (كالعلم بالتاريخ أو الفلسفة أو التصوف مثلا ) فهؤلاء يستفاد منهم في مجالهم، ولكنهم ليسوا أهلا للفتوى، ولا يصلحون لتلقي العلم الشرعي عنهم.
وقد يكون بين هؤلاء من يجيد فن القول والدعوة والخطابة، والقدرة على التأثير في الجماهير وهز أوتار القلوب، ولا يعني هذا أنه من أهل التحقيق العلمي، فكثيرا ما يجمع بين الغث والسمين، وما يخلط بين الأصيل والدخيل، وما يمزج بين الحقيقة والخرافة، وكثيرا ما تشتبه عليه المسائل، فيفتي بغير علم فيضل ويضل، وكثيراً ما تختلط عليه المراتب، فيضخم الصغير، ويصغر الكبير، ويعظم الهين، ويهون العظيم، وكثيرا ما يعتقد السامعون المبهورون بحسن الأسلوب، وسحر البيان: أن مثله جدير أن يؤخذ عنه، ويتلقى منه.
ولا يخفى أن الوعظ والخطابة فن، وأن الفقه والتحقيق فن آخر، وليس كل من يحسن أحدهما يحسن الآخر.
ولا يقبل العلم من عالم، ما لم يجمع إليه العمل به، وهو ما عبرنا عنه بالورع، وأساسه خشية الله تعالى، التي هي ثمرة العلم الحقيقي ((إنما يخشى الله من عباده العلماء ))
(فاطر: 28 ).
وهذا الورع أو تلك الخشية هو ما يمنع العالم أن يقول على الله بغير علم، أو يوظف علمه في خدمة نظام أو سلطان، فيبيع دينه بدنيا غيره.
والصفة الثالثة لمن يؤخذ عنه العلم في عصرنا هي: الاعتدال الذي هو خاصة دين الإسلام، وقد ابتلينا في عصرنا بصنفين متقابلين ممن ينتسبون إلى العلم: المفرطين والمفرطين، أو الغلاة والجفاة، كما قال الحسن البصري رحمه الله: يضيع هذا الدين بين الغالي فيه والجافي عنه.
نجد من هؤلاء من يكاد يحرم على الناس كل شيء، وفي مقابلهم من يكاد يبيح لهم كل شيء.
نجد من هؤلاء من يوجب التقليد لمذهب بعينه ويغلق باب الاجتهاد، وفي الجهة الأخرى من يطعن في المذاهب كلها، ضاربا بجهودها واجتهاداتها عرض الحائط.
نجد من هؤلاء الحرفيين المتمسكين بظواهر النصوص، دون نظر إلى المقاصد، أو رعاية للقواعد، ونجد في مواجهتهم المؤولين الذين حولوا النصوص في أيديهم إلى عجينة قابلة لما شاءوا من معانٍ ومضامين.
والصنف المطلوب المأمون: هو الصنف الوسط المعتدل بين الغلاة والمتسيبين، الذي يجمع بين عقل الفقيه وقلب التقي، ويلائم بين الواجب المطلوب، والواقع المعاش، ويميز بين ما يرتجي الخواص وما يعانيه العوام، ويعرف أن لحالة الاختيار والسعة حكمها، وللضرورات أحكامها، ولا يدفعه التيسير إلى إذابة الحواجز بين الحلال والحرام، كما لا يدفعه الاحتياط إلى التشديد والتعسير على عباد الله، ورحم الله إمام الحديث والفقه والورع، سفيان الثوري حين قال: إنما العلم الرخصة من ثقة، أما التشديد فيحسنه كل أحد!!
2- يســروا ولا تعســروا:
وأنصح هؤلاء الشباب ثالثاً : أن يتخلوا عن التشدد والغلو، ويلزموا جانب الاعتدال والتيسير، وخصوصاً مع عموم الناس الذين لا يطيقون ما يطيقه الخواص من أهل الورع والتقوى، ولا بأس بأن يأخذ المسلم في مسألة أو جملة مسائل بالأحوط والأسلم، ولكن إذا ترك دائما الأيسر، واتبع دائما الأحوط، أصبح الدين في النهاية "مجموعة أحوطيات " لا تمثل إلا الشدة والعسر، والله يريد بعباده السعة واليسر.
والناظر في نصوص القرآن والسنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، يجدها تدعو إلى اليسر ورفع الحرج، والبعد عن التنطع والتعسير على عباد الله.
وحسبنا من القرآن قوله تعالى بعد آيات الصيام: (( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )) (البقرة:185 ).
وفي آية الطهارة: ((ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج )) (المائدة:6 ).
وعقب آيات النكاح: ((يريد الله أن يخفّف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا )) (النساء:28 ).
وفي آية القصاص وإجازة العفو والصلح فيه: (( ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة )) (البقرة:178 ).
وحسبنا من السنة ما ذكرنا من قبل مما رواه ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم : "إياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين " (رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم بإسناد صحيح ).
وما رواه ابن مسعود عنه أنه قال: "هلك المتنطعون، قالها ثلاثا " (رواه مسلم ) وهو يشمل التنطع في القول، أو في العمل، أو في الرأي.
وما رواه أبو هريرة قال: "بال أعرابي في المسجد، فقام الناس إليه ليقعوا فيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه وأريقوا على بوله سجلا من ماء، أو ذنوبا من ماء، فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين " (رواه البخاري ).
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسر هما، ما لم يكن إثماً (متفق عليه ).
وقال لمعاذ لما أطال القراءة بالقوم، أفتان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثا. ومعنى هذا أن التشديد على الناس وأخذهم بالعزيمة دائما فتنة لهم.
وإذا جاز للإنسان أن يشدد على نفسه طلباً للأكمل والأسلم، فلا يجوز أن يشدد على جمهور الناس فينفرهم من دين الله من حيث لا يشعر، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أطول الناس صلاة إذا صلى لنفسه، وأخفهم صلاة إذا أمَّ غيره، وقال في ذلك: "إذا صلى أحدكم للناس فليخفف، فإن فيهم الضعيف والسقيم والكبير، وإذا صلى أحدكم لنفسه، فليطول ما شاء " (متفق عليه ).
وعن أبي قتادة أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إني لأقوم إلى الصلاة، وأريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز (أي أخفف) في صلاتي، كراهية أن أشق على أمه " (رواه البخاري ). وقد بين مسلم في صحيحه صورة هذا التخفيف في رواية له: أنه كان يقرأ السورة القصيرة.
وعن عائشة أنها قالت : " نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال (وهو وصل يوم بآخر في الصيام) رحمة لهم، فقالوا: إنك تواصل. قال : إني لست كهيئتكم، إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني " (متفق عليه ).
ولئن كان التيسير مطلوباً في كل زمن، فإنه في زماننا ألزم وأكثر تطلباً، نظراً لما نراه ونلمسه من رقة الدين، وضعف اليقين، وغلبة الحياة المادية على الناس، وعموم البلوى بكثير من المنكرات حتى أصبحت كأنها القاعدة في الحياة، وما عداها هو الشاذ، وأصبح القابض على دينه كالقابض على الجمر، وكل هذا يقتضي التسهيل والتيسير، ولهذا قرر الفقهاء: أن المشقة تجلب التيسير، وأن الأمر إذا ضاق اتسع، وأن عموم البلوى من