يجب على الشباب أن يحترموا التخصص، فلكل علم أهله، ولكل فن رجاله، فكما لا يجوز للمهندس أن يفتي في أمور الطب، ولا للطبيب أن يفتي في شؤون القانون، بل كما لا يجوز أن لطبيب متخصص في فرع أن يقتحم حمى فرع آخر، كذلك لا يجوز أن يكون علم الشريعة كلأ مباحاً لكل من هب ودرج من الناس، بدعوى أن الإسلام ليس حكرا على فئة من الناس، وأنه لا يعرف طبقة "رجال الدين " التي عرفت في أديان أخرى.
فالواقع أن الإسلام لا يعرف طبقة رجال الدين، ولكنه يعرف علماء الدين المتخصصين، الذين أشارت إليهم الآية الكريمة (فلولا نفر من كلّ فرقة منهم طائفة ليتفقّهوا في الدّين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يحذرون ) (التوبة:122 ).
وقد علمنا القرآن والسنة أن نرجع فيما لا نعلم إلى العالمين من أهل الذكر والخبرة بقوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذِّكر إنْ كنتم لا تعلمون )) (الأنبياء:7 )
وقال تعالى: ((ولو ردّوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم )) (النساء:83 ) وقال سبحانه: ((فاسأل به خبيراً )) (الفرقان: 59 ) ((ولا يُنبِّئك مثل خبير )) (فاطر:14 ).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب الشجة، الذي أفتاه بعض الناس بوجوب الغسل رغم جراحته، فاغتسل فمات. قال : "قتلوه قتلهم الله: هلا سألوا إذا لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال ".
وإن مما راعني أن أجد من يجترئ على الفتوى في أخطر القضايا، وإصدار الأحكام في أهم الأمور، دون أن تكون عنده مؤهلات الفتوى، وقد يخالف جمهور العلماء قديما وحديثا، وربما تطاول فخطأ الآخرين وجهّلهم، بزعم أنه ليس مقلدا،وأن من حقه أن يجتهد، وأن باب الاجتهاد مفتوح للجميع، وهذا صحيح، ولكن للاجتهاد شروطا قد لا يملك أيّ واحد منها.
لقد عاب أسلافنا من محققي العلماء على بعض أهل العلم في أزمانهم، ممن يتسارعون إلى الفتوى دون تثبت وروية كافية، وكان مما قالوه:"إن أحدهم يفتي في المسألة لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر! " ومن مأثور القول: "أجرؤكم على الفتيا، أجرؤكم على النار ".
وكان الخلفاء الراشدون ـ مع ما آتاهم الله من سعة العلم ـ يجمعون علماء الصحابة وفضلاءهم عندما تعرض لهم مشكلات المسائل، يستشيرونهم، ويستنيرون برأيهم، ومن هذا اللون من الفتاوى الجماعية نشأ الإجماع في العصر الأول.
وكان بعضهم يتوقف عن الفتوى، فلا يجيب ويحيل إلى غيره، أو يقول: لا أدري. قال عتبة بن مسلم: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهرا، فكان كثيرا ما يسأل، فيقول: لا أدري!
وقال ابن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أحدهم عن المسألة، فيردها إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وما منهم من أحد يحدث بحديث، أو يسأل عن شيء، إلا ود أخاه لو كفاه؟
وقال عطاء بن السائب: أدركت أقواماً إن كان أحدهم ليسأل عن شيء فيتكلم وإنه ليرعد .
وإذا انتقلنا إلى التابعين نجد سيدهم وأفقههم سعيد بن المسيب، كان لا يكاد يفتي، ولا يقول إلا قال: اللهم سلمني، وسلم مني .
وبعد التابعين نجد أن أئمة المذاهب المتبوعة لا يستنكفون من قول "لا أدري " فيما لا يحسنونه. وكان أشدهم في ذلك مالك رحمه الله، فكان يقول: "من سئل عن مسألة، فينبغي له قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنة والنار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة، ثم يجيب فيها ".
وقال ابن القاسم: "سمعت مالكا يقول: إني لأفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن ".
وسمعه ابن مهدي يقول: "ربما وردت علي المسألة، فأسهر فيها عامة ليلي ".
قال مصعب: "وجهني أبي بمسألة -ومعي صاحبها - إلى مالك يقصها عليه، فقال: ما أحسن فيها جواباً، سلوا أهل العلم ".
قال ابن أبي حسان: "سئل مالك عن اثنتين وعشرين مسألة، فما أجاب إلا في اثنتين بعد أن أكثر من "لا حول ولا قوة إلا بالله ".
ولست أمنع الشباب المسلم أن يدرسوا ويتعلموا، فطلب العلم فريضة، وهو مطلوب من المهد إلى اللحد. ولكني أقول: إنهم مهما درسوا، فسيظلون في حاجة إلى أهل الاختصاص، فإن للعلم الشرعي أدوات لم يتوفروا على تحصيلها، وأصولا لم يتمرسوا بمعرفتها واستيعابها، وفروعاً ومكملات لا تسعفهم أوقاتهم ولا أعمالهم أن يتفرغوا لها، ولكل وجهة هو موليها، وكل ميسر لما خلق له.
كما أني لا أقر ما يصنعه بعض هؤلاء الشباب من ترك كلياتهم النظرية، كالآداب والتجارة، أو العلمية، كالطب والهندسة، للتخصص في دراسة الشريعة، بعد أن قطعوا أشواطا في تخصصاتهم، وكثيراً ما ظهر تفوقهم فيها، وجهل هؤلاء أو تجاهلوا أن طلب هذه العلوم- بل التفوق فيها - فرض كفاية على جماعة المسلمين، وأن السباق بينهم وبين مخالفيهم في هذه الميادين على أشده، وأن من خلصت نيته في طلب هذه العلوم الدنيوية والتعمق فيها، كان في عبادة وجهاد.
وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم وللصحابة مهن وأعمال يتكسبون منها، فترك كلّ امرئ منهم في حرفته، ولم يطلب إليهم أن يدعوها ويتفرغوا للعلم أو الدعوة، إلا من طلب لمهمة، فعليه أن يوطن نفسه على القيام بها.
وأخشى ما أخشاه أن يكون وراء هذا التحول شهوة خفية للظهور والتصدر في المجالس والحلقات، ربما لا يشعر بها صاحبها، ولكنها مستكنة في أعماقه، تحتاج إلى تدقيق وتفتيش، والنفس بالسوء أمارة، ومداخل الشيطان إليها كثيرة ودقيقة، والموفق من توفق عند مفارق الطرق، واجتهد في تحليل خواطره ودوافعه وخطواته: أهي للدنيا أم للآخرة؟ أهي لله أم للناس؟ حتى لا يخدع نفسه، وحتى يمضي على بينة من ربه وبصيرة من أمره. ((ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلىَ صِراطٍ مُسْتقِيمٍ )) (آل عمران:101 ).